بين التعميم واتضليل والتحريف(حين تغتال الحقيقة بأيدٍ ناعمة) بقلم الكاتبة رانية مرجية


 بين التعميم والتضليل والتحريف... حين تُغتال الحقيقة بأيدٍ ناعمة

بقلم: رانية مرجية


في هذا الزمن المتسارع، لم تعد الحقيقة هي تلك النبتة التي تنمو ببطء في تربة العقل، وتسقى بماء المعرفة، وتزهر في ضوء الحكمة. لقد تحولت إلى سلعة معروضة على رفوف وسائل الإعلام ومنصات التواصل، تُقص وتُجز وتُلمع وتُطعّم بحسب الهوى والمصالح. وإن أخطر ما تواجهه الحقيقة اليوم، ليس التجاهل، بل التعميم، والتضليل، والتحريف.


التعميم... تلك الآفة الفكرية التي تقتل الفهم في مهده، وتختصر البشر في قوالب جاهزة، فتُجردهم من فرديتهم وتجاربهم. نقول: "النساء كلهنّ عاطفيات"، "الشعوب العربية لا تقرأ"، "جيل اليوم لا يعرف المسؤولية"... وكأننا نصدر أحكامًا إلهية، لا تقبل المراجعة. لكن الحقيقة، أيها القارئ النبيل، لا تُختزل في جملة واحدة، ولا في خبر عاجل، ولا حتى في دراسة واحدة. الحقيقة، بطبعها، فسيفساء ملونة، تحتاج إلى أن نقترب منها لنراها كاملة، لا أن نحكم عليها من خلف الزجاج.


أما التضليل، فهو العدو المتأنق، الذي يرتدي بدلة الإعلام المهذبة، ويتسلل إلى عقولنا بهدوء. هو ليس الكذب المباشر، بل نصف الحقيقة... الربع منها أحيانًا. يُخبرك عن حادثة، ويخفي السياق. ينقل لك تصريحًا، ويقص الجملة التي قبله والتي بعده. ينشر صورة، لكنه لا يخبرك متى وأين ولماذا التُقطت. وهكذا، تجد نفسك مشدوهًا، مندهشًا، غاضبًا أحيانًا، وأنت لا تعلم أنك وُضعت داخل متاهة ذكية، صممها من يعرف تمامًا كيف يوجّه مشاعرك قبل أفكارك.


أما التحريف، فهو القتل البطيء للمعنى. يحدث عندما يُؤخذ نص من بيئته، أو يُحرّف قول في سياقٍ ثقافي أو ديني أو سياسي، لتصبح الكلمة خنجراً، بعد أن كانت بلسمًا. نقرأ كثيرًا عناوين تشوّه مضمون المقال، أو تفسيرات مغلوطة لنصوص مقدسة، تُساق لتبرير ظلم أو كراهية. هنا، لا تُغتال الحقيقة فقط، بل يُغتال الضمير أيضًا.


في هذا الزمن الرقمي، حيث المعلومة أسرع من الوعي، نحن بحاجة إلى وقفة تأمل. لا يكفي أن نستهلك الأخبار، بل يجب أن نحاكمها. لا يجوز أن نمنح ثقتنا المطلقة لأي رواية، مهما بدت جذابة أو قاطعة. فكل تعميم يُقصي، وكل تضليل يُوجّه، وكل تحريف يُمزق النسيج الذي نحاول أن نرتقه بخيوط الوعي والمعرفة.


إن مقاومة التعميم والتضليل والتحريف ليست مجرد معركة فكرية، بل هي معركة أخلاقية أولاً. إنها امتحان للضمير، وقدر من لا يرضى أن يكون تابعًا أعمى، أو صدى لصوت لا يعرف مصدره.


وختامًا، أكتب إليكم كابنة لهذه الأرض، كمواطنة حرة، ككاتبة تعبت من المساحيق الإعلامية ومن تزييف العقول، لأقول:

لا تصدقوا كل ما يُقال لكم،

ولا تقرأوا بأعين الآخرين،

ولا تكرروا كلامًا لم تختبروه.

افتحوا النوافذ للحقيقة، حتى لو دخل منها الهواء البارد.

فالحقيقة، رغم قسوتها، تحرر... والتضليل، مهما تأنق، يستعبد.


رانية مرجية

كاتبة وناشطة اجتماعية فلسطينية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سنين عمري ....بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

وقعت أسير هواك...بقلم الشاعر أبو بكر المحجوب

عسعسة العيش....بقلم الشاعر راتب كوبايا

قلبي ينبض بحبك...بقلم الشاعر أبوبكر المحجوب

اِغضب...بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

لست وحدي ...بقلم الشاعر رضا الشايب

منها نستفيد...بقلم الشاعر علي مسلم عجمي

محبة ....بقلم الشاعر أحمد قراب

الخمار الأسود.. بقلم الشاعر/منصور عمر اللوح

تبرية من شيم العفاف تنجلي....بقلم الشاعر معمر محمد بدوي