ذات يوم التقينا...بقلم الشاعر يحي صديقي
ذات يـــــــوم التقــــــــــــينا
في نقطة مـا، التقينا. أنا، وهي. مختلفين لا يجمعنا رأي ولا فكرة مُعينة.
كنا كَفَرَسَيْ رهان، سباق وتدافع. كلما اختلفنا توقّد الذهن، وقدحت شعلة التفكير فينا من جديد.
كنا نرتاد الأنهر الجارية المتدفقة، نعبُّ منها حـدّ الارتوء، لكن تبقى بدواخلنا تلك المساحات الشاسعة عطشى دون إرتواء.
كانت حياتنا تجري في أنساقها المتفرّدة على اختلافنا البين، لكنها كانت الباعث والمحرّك للفكرة في تلافيف العقل. كلّما خبت توهج جمر الفكرة في موقد العقل من جديد.
ولما التقينا ذات مساء، وفي تلك النقطة بين حدين متداخلين. اتحدنا ذاتا وفكرة، وفي لحظة نسيان متعمّد ابتلعنا المـدى فكرتين متوهجـتين شاردتين في فضاء العقل.
حدث نفسه وهو يجلس في مقهاه المعتاد بساحة المدينة المطلّةعلى البحر والميناء،
هنا في هذا المكان والطاولة ترتاح نفسه، يمارس نزقه الفكري. لوى رجله اليمنى فوق اليسرى، وبين يديه فنجان قهوة تجاوزت رائحتها الشذية عتبات حاسة الشم، إلى منتهى الشعيرات العصبية. نَبَشَت فيها عدة أفكار وذكريات أطلّت برأسها وتراقصت أما ناظره كسعالى الجن في ليلة مقمرة.
مَـطّ شفتيه إلى الأمام متعجّبا من حاله، أو ربما من كونه إنسان يفكّر، واندلقت في الحين تلك الفكرة التي تُدْعى فلسفيا بالكوجيطو. ـ أنا أفكر، أنا موجود.
ابتسم في قرارة نفسه وردد المهم أنا الآن موجود!!. كانت يده لا تتوقّف في تدوير الفنجان يمينا وشمالا، وكأنه يقوم برسم خارطة لمواقع ذهنية متحركة. ترحل عبر أبعادها فكرة شاردة، يترصّدها حين تبتعد، ويهتم بها حين تلامس وجـدانه الموّار عند الاقتراب. إنها زئبـقية وعصية تتقن المناورة، والقدرة على التماهي والاختفاء دخل حقول الألغام المفتوحة، والغير الآمنة.
ارتشف رشفة هادئة لكنها عميقة عمق ما يدور في خلده من أفكار. الفكرة قنبلة مُمَوَّهة وموقوته قالها في نفسه، أو هكذا اندلقت من رحم الذهن وهي تحاوره.
ربما هو يشعر بالملل، أو الكآبة، وربما حزن دفين وبقايا من ألم يمور في وجدانه الحساس.
هل الفكرة قنبلة؟!! ابتسم ساخرا وراح الصّدى داخله يردّد. الفكرة قنبلة، الفكرة قنبلة !!؟؟
ـ سذاجة ما بعدها سذاجة، بل غباوة شديدة، وجهل مُركب.!!
العالم يفكر، العالم ينتج كل لحظة أفكارا جديدة. أفكار تتفجّر صناعات متقدمة، ومؤسسات ناهضة، وابتكارات مُذهلة، وأجهزة عابرة المجتمعات والأسواق، سلاح، طعام، فلسفات صادمة، ورفاهية مُصنّعة.
أما عندنا، وفي ساحاتنا تتحول الأفكار إلى حقول الغام. تتفجر، تقتل، تدمّـر، تحرق، تخنق، بل وتتفـنّن في تقطيع جسد المعارض وتذويب أعضائه كيلا لا يبقى منه أثر.
هل الفكرة تموت بمجرد تذويبها بحامض الأمونياك وفصلها عن جهازها العصبي مثلا ؟
من الغباء السيئ محاربة الفكرة بقتل الجسد، لأن الفكرة روح تطير بسرعة حاملة معها نطفتها فتتناسل، وتتوالد، وتكبر وتتعاظم، وتنتشر في الآفاق، وفي العقول الحرة المؤمنة بتناسل الأفكار. كم نحن أغبياء حين نصدّق أن قتل الجسد، هو قتل العقل، وموت لفكرة. إنه تورّط بليد.
كم في مجرّتا ـ نحن ـ من ثقوب سوداء التي تبتلع الأفكار المتوهجة، والطاقات المتجددة. وتحـتفي جهارا بموالات الجهل واعتناقه.
كان المقهى يعـجُّ بمـرتاديه، والأصوات المتداخلة تتعالى حوله. قهواجي جيبلي قهيوة، قهواجي أرواح، قهواجي........
لم يدرِ كم مـرّ عليه من الوقت في جلسته تلك. خفتت الأصوات من حوله، ثم انقطعت! لم يكن معه سوى صاحب المقهى، والنادل وهو يسحب الكراسي محدثة جلبة وكركرة.
رفع رأسه، نظر حوله. لم يبق في المقهى سِواهُ، وشخص آخر على الطرف المقابل ربما يكون مشرد فهيأته تنبئ بذلك.
استيقظ في اللحظة شيء ما بداخله، خضخض وجدانه مثل شكوة لبن ! ربما هو يكون قد نسيه لوقت غير محسوب، لكن ظل بداخله، هو شبيه بحلم بعيد، أو قل هو وهم توهّمَه إلا أنه يحبه ويتـمنّاه حقيقة. حين التقى بها على ربـوة بـونـة ذات يوم دافئ دفء عواطفه، وحلّق معها كفكرة مُجنّحة على ذرى غابات (سـرايـدي) العالية، كان الجو لطيفا لطف عواطفها، وجميلا جمال نفسها، ولذيذا لذاذة صوتها ذي البحة والنبرات الحانية.
المساء يقترب من حـرف البحر، والشمس تدنو مُحْتـضنة رؤوس الأشجار وما بقي من قمة الجبل مُلقية عليه رداءها القرمـزي كأنها توشحه خوفا عليه من برد الليل. تلاقت نظراتهما، تبادلا الكلمات الصامتة، تلاقت الفكرة مع الفكرة في سـرٍّ ضنين على البوح. ابتسمت، انبثق بداخله نور أضاء ما بينه وبينها. رآها هي كما عرفها في قمة التجلي والسمو وحيدة.
مـرّت نسمة باردة، انتابته قشعريرة برد لذيذة، أحس كل ما بداخله يرتعش. احتمى بها، شعر بالدفء يتسلّـل عبر مسامات جسده، ويسكن دم أوردته، تمـدّد إلى جانبها وتلبّكه وسنٌ استبـدّ بجفونه. وغفـى غفوة الطفل الوديـع.
يوم: 02/10/2023. يحـــــــــــــــــي
تعليقات
إرسال تعليق