الرغيف الأخير....بقلم الاديب سالم حسن غنيم
الرغيف الأخير
كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل…
والمدينة كلّها بدت نائمة،
إلّا شارعًا صغيرًا خلف مخبز قديم في جبل الحسين،
شارع يمر به الناس نهارًا دون أن يرمقوه…
لكنه في الليل يصبح مسرحًا للحكايات التي لا تُروى.
على طرف الشارع،
كانت تقف امرأة خمسينية اسمها أم سامي.
جلبابها غامق، وشالها مسحوب على نصف وجهها،
ليس خوفًا من البرد…
بل خوفًا من أن يراها أحد ممن يعرفونها:
الجيران،
احد الاقارب ،
صديقة قديمة،
أو حتى طفل من أطفال الحارة.
كانت تمسك بكيس فارغ،
وتقترب ببطء من باب المخبز الخلفي،
حيث تُرمى بقايا الخبز اليابس عند الإغلاق.
وقفت تتردد لحظة…
ثم نظرت حولها:
يمين… يسار…
الشارع فارغ،
والصمت يثقل على صدرها أكثر من الجوع.
مدّت يدها نحو الصندوق الذي يضعون فيه الخبز القديم.
يد ترتجف…
كأنها تمتد إلى شيء محرّم.
رفعت قطعة صغيرة،
ثم أعادتها بسرعة،
وكأن الخبز شاهد على ذلٍّ لم تكن تتوقع يومًا أن تعيشه.
همست لنفسها:
سامحني يا رب…
إحنا ما كنا هيك.
عادت تمد يدها مرة أخرى،
وبينما تمسك بقطعة خبز أكبر قليلًا،
سمعت صوت خطوات تقترب.
تجمّدت.
نزل الشال أكثر على وجهها.
وزاد خفقان قلبها كأنها ارتكبت جريمة.
لكن القادم لم يكن شرطيًا،
ولا شخصًا يعرفها.
كان شابًا يعمل في المخبز،
خرج يحمل صندوقًا آخر من الخبز الجاف.
نظر إليها دون أن يتكلم.
هو يعرف، ويتظاهر بأنه لا يعرف.
ثم قال بصوت منخفض:
خالتي…
خذي هاد،
طازة ولساته دافي…
قبل ما نكبّه.
ترددت…
ثم أغمضت عينيها وأخذت الكيس.
شكرته بصوت مبحوح، كلمة خرجت محمّلة بثقل سنوات.
ابتعدت وهي تضم الخبز لصدرها…
ليس لأنها جائعة وحدها،
بل لأن وراءها بيتًا يخجل من النوم جائعًا.
وقفت عند زاوية الشارع،
وبكت بصوت لم يسمعه أحد.
لم تكن تبكي لأنها أخذت خبزًا…
بل لأنها وصلت إلى يوم تأخذ فيه خبزًا من غير يدها.
وحين اختفت في العتمة،
ظل الشاب واقفًا مكانه يفكر:
متى صرنا نترك أمّهاتنا وخالاتنا ونساء بلادنا يوصلوا لهيك؟
متى صار الجوع يطرق بيوتنا وإحنا ساكتين؟
رفع رأسه للسماء وهمس:
الله يكون بعون الناس…
الله يرزق كل محتاج…
الله يجبر قلوب اللي ما عاد إلها سند.
سالم حسن غنيم

تعليقات
إرسال تعليق