الثري الفقير....بقلم الكاتب محمد بن سنوسي


 الثري الفقير

دأب منذ صغره على التمتع بمشهد المارة والحضور المتوشحين في نظره لواء الخدم والحشم والعبيد فمن سيارته الفارهة أبدا لا تتجرأ  الآلام على إسماع صوتها ولا تتمرد الأحزان بنقش آهات القابعين في دهاليز الحياة على اللوحة المعروضة يوميا في طريق عبوره.

منذ نعومة أظفاره تم رفعه بفعل فاعل أو بإملاء عرف رحيق المال البائس لقمة الهرم فلم يكابد أبدا جراح الصعاب ولم تخطر بباله ولو مرة الهموم العابرة التي ترسم الندوب بل أغدقت عليه الدنيا بملذاتها وسكبت عليه من خيراتها ما أنساه محيطه المرافق الكامن خلف الشمس بل و ما حجب عنه حقيقة الحياة العميقة و أحلام البسطاء والتي لم تكن لترقى مطلقا لدرجة تلمس الجوارح للإنسان الآخر الشريك في الأرض والنفس وفي الهواء.

فلم يترتم يوما بهمس فقير ولا إطلاله بائس ولم يتجمل يوما بنسيم محتاج بانحناء رحيم  لحاجته بكل جهد الجوارح وتفنن صدى النداء في خياطة جبة المواساة.

ومع الأيام ترسخت بباله صورة الإعتلاء ومراقبة سكان باقي أرجاء الوطن من القمة فبقدر ما صغروا في نظره بقدر ما غاب عن المشهد و بقدر ما زرع الحقارة بعبارات التكبر ونهشت قسوته ظهور الخدم والحشم والحضور و بقدر ما انحنت  الرقاب له خوفا ووجلا وخضوعا لتعاليم  المال وشراء الذمم وغض الطرف عن الفساد واللا عدل.

هو ذاك  الذي احتكر السمو والحضرة والرفعة برغم أنوف الشرفاء وبرغم معطيات العلماء ورؤى أهل الحكمة فسرى رأيه على النظريات وامتزجت تفاهاته بقوافي البلغاء وصدق الجميع  حماقاته مرغمين وتغاضت الرفقة عن العيوب بفعل سحر عطور المال وسهام الولاء وآليات الخضوع.

هو ذاك الذي امتهن التفرد بعرض بيانات المنهيات والقوائم الطويلة من الواجبات على إيقاع واجب السكوت المطبق المفروض على الضعيف عند بزوغ أولى كلماته.

هو الذي استنزفت المشاهد الصاخبة رصيد أيامه وأتت الشيخوخة على سنوات العمر حتى صدحت التجاعيد مرغمة بالحقيقة الأزلية أن النهاية قد دنت فأين أنت من المارين الخالدين ؟ أين أنت من الذين يبتسم الحي والمدينة ثناء لهم عند ذكر أسمائهم ؟

 أين أنت من الذين أقاموا لأنفسهم الصروح بقلوب الفقراء والمساكين والعامة لبناتها وحروفها وزواياها مقاسمة المآثر ومواطن الرقة و الفرح و كفالة اليتيم ؟

فجحافل رفاق المسيرة قد انزوت للظل وآثرت كتم أنفاسها إيمانا منها بعدم جدوى التفوه بالكلمة والصورة والقصيدة بعدما تبددت  أحلامها وغارت بعيدا أركان طموحاتها العابرة.


هي صفحة عادة ما تطوى سريعا يوم تنثرها أغصان الأعوام دون أن تروي للأجيال غير رواية مسيرة التنقيب عن عبارات القسوة و حروف الشر ونكران الجميع فتهب عاصفة على الأخضر دون أن يثمر  وعلى البنيان دون أن يزهر لتظل صامتة و دوما جاثمة بوحدة قاتلة بصحراءها الفلاة كما كانت من البداية .

فالمال الذي لا يشتري لك جنان الخلود سيأخذك حتما لغيرها.

محمد بن سنوسي

 من سيدي بلعباس

 الجزائر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيف ودرع...بقلم الشاعر أكرم كبشة

كادوا للأمة الإسلامية...بقلم الشاعرة تغريد طالب الأشبال

وداعا يا حبيبي....بقلم الشاعر محمد السيد يقطين

احيانا،ودي ما تغيب الذكريات....بقلم الشاعر رضوان منصور

حوار شعري بين حبيبين.. بقلم الشاعر/م.صبري مسعود.

في هذه الحديقة....بقلم الشاعر نورالدين جقار

نثريات.. بقلم الكاتب/محمد حسن البلخي

تحت وطأة الدجى....بقلم الشاعر توفيق عبد الله حسانين

تهمة في مسالك التحقيق...بقلم الشاعرة مريم بوجعدة

يمضي الليل...بقلم الشاعر أبو روان حبش