شيم اللئام(قصة قصيرة)...بقلم الأديب د.عبد الستار عمورة


 قصة قصيرة


شِيَمُ الِّلئام


وانا أقرأ قصة الصّياد والذّئب للأديب الرّوسي العملاق "ليف تولستوي"،أنّ ذئبا طارده صيّادون فصادف فجأة فلاّحا يخرج من مخزنه، يحمل كيسا ومدقّة.

-"إنّهم يريدون قتلي،خبّئني أيّها الفلاح الطيّب،قال الذئب وهو يرتعد من الخوف"..!

أشفق عليه وأمره أن يدخل في الكيس وحمله على ظهره.

وصل الصيّادون بأسلحتهم وهم يلهثون:"هل رأيت ذئبا مرّ من هنا"؟

قل الصيّاد: لم أره!

-وماذا يوجد في هذا الكيس؟!

-تبن لغنماتي أخرجته لتوّي من المخزن.

كان الذّئب وقتها على وشك الموت رعبا.

انصرف الصيّادون..طرح الفلّاح الكيس أرضا..وثب الذّئب بسرعة من داخله و أراد أن يفترس الفلّاح!

-أنقذتك وتريد أن تفترسني،قال الفلّاح متعجّبا..!؟

-معروف الآخرين ،سرعان ما ينسى أيّها الطيّب و راح يقهقه حتّى بانت أنيابه وسال لعابه مستلقيا على ظهره..متمرّغا في التّراب.

-إنّك على خطأ أيّها الذّئب لنسأل في طريقنا كل من نصادفه:"هل ينسى المعروف الّذي قُدِّم إلينا أم لا ينسى..؟ثمّ نحكم بعد ذلك.

قبل الذّئب ذلك وقال:إن كان الجواب لا ينسى تركتك و شأنك و إن كان ينسى التهمتك.

صادفا فرسا مسنّة ضعيفة البصر،سألها الفلّاح بأمل كبير:هل ينسى المعروف الّذي قُدّم إلينا قديما أم لا..؟!

قالت الفرس وهي تتحسّر:لقد عشت سنين طويلة عند معلّمي،أعطيته مهورا..حرثت..حملت أثقالا..فقدت بصري وأصبحت عاجزة فأخذوني إلى المطحنة لتدوير العجلة..سقطت عندها..ضُرِبت بالسّوط للنّهوض لكن بدون فائدة..سُحِبت عندها إلى الوادي و تركوني هناك بالكاد خرجت و ها انا كما ترونني ضالّة متشرّدة.

-هل سمعت وتأكّدت أيّها الرّجل،معروف الآخرين سرعان ما ينسى،قال الذّئب متهكّما.

-انتظر قليلا أيّها الذّئب،ربّما سنصادف شخصا أو حيوانا آخر يكون رأيه غير هذا الذّي سمعناه،قال الفلّاح وهو يبلع ريقه بصعوبة كبيرة.

وجدا كلبا يجرّ نفسه على مؤخّرته بصعوبة كبيرة،سأله الفلّاح وأمله كبير هذه المرّة فهو يعرف جيّدا أنّ الكلاب وفيّة لصاحبها:قل لي أيّها الكلب المسنّ،هل يُنسى المعروف الّذي يُسدى أم لا يُنسى..؟

أخرج الكلب زفرات متقطٌعة و بصوت مبحوح:"حرست بيتهم نهارا وليلا ولمّا هرمت وفقدت أسناني،طردوني بعد أن ضربوني بعصا لكي لا أعود مرّة أخرى،أكيد سيستبدلونني بجرو صغير و هذه حالتي كما ترون..!؟

أخذ الذّئب يعوي عواء متواصلا مزهوّا بانتصاره هذه المرّة أيضا:"أرأيت أيّها الرّجل..سأنقضّ عليك الآن لقد خسرت الرّهان..!

كاد الفلّاح أن يفقد صوابه..أحسّ بدوار لازمه وفقد عزيمته وبدا مستسلما هذه المرّة:ننتظر الّلقاء الثّالث والأخير و لك ما أردت..

لقيا ثعلبا يمشي متبخترا،قال الفلّاح للمرّة الثّالثة مكرّرا نفس الكلام:أيّها الثّعلب الحكيم،هل يُنسى المعروف الّذي يُقدّمُ إلينا أم لا يُنسى..؟أرجوك أفدنا و حكى له قصّته مع الذّئب.

فكّر الثعلب هنيهة ثمّ قال:أنا لا أصدّق قصّتكما..!،كيف استطاع الذّئب أن يدخل ويختبئ داخل هذا الكيس وهو بهذه الضّخامة! لا،لا، لا أصدّق هذا..!

-بلى أيّها الثّعلب الحقير،هذا صحيح و أنا لا أكذب قال الذّئب وقد استشاط غضبا.

-قلت لك هذا شيء لا يصدّقه العقل و إن كان صحيحا أرني كيف استطعت الدّخول والإختباء داخل الكيس..؟!

أدخل الذّئب رأسه أوّلا و بقي يحاول حتّى اختفى داخل الكيس،عندها التفت الثّعلب إلى الفلّاح وقال له:اربط فوهة الكيس جيّدا الآن وبسرعة،ثمّ متّعنا بفرجة دقّ القمح بالمدقّة.

سُرّ الفلّاح كثيرا بدهاء الثّعلب ودقّ الذّئب حتّ أخمد أنفاسه.

تنفّس الرّجل الصعداء وهدأت أنفاسه واطمأنّ لحاله..التفت للثّعلب بعدها وقال له بمكر وخبث:ياثعلب،أتريد أن تعلم أنت أيضا كيف يُدقّ القمح على البيدر؟ و هوى عليه بضربة قاضية بالمدقٌة فقتله و بعدها همس في نفسه قائلا بكلّ قساوة قلب:"من المؤكد أنّ المعروف الّذي يُسدى سرعان ما يُنسى. !

لمّا أنهيت القصّة تذكّرت جدّتي وهي تحكي لي قصّة مشابهة لقصّة الكاتب"تولستوي" الفرق يكمن فقط في شخوص القصّة.

كانت حبّات السّبحة تنتقل بين أناملها المخضّبة بالحناء وكلمات القصّة تتراقص بين شفاهها مندفعة من فمها الأدرد:كان يا ماكان وفي سالف العصر و الأوان ولا يحلو الكلام إلّا بذكر سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام،ثعبان كبير..كبير..مرقّط رهيب..وجده الفلّاحون وهم يحصدون السّنابل تحت كومة العشب اليابس،أرادوا القضاء عليه بمناجلهم فزحف بسرعة متلفّعا بين القصيبات المنتصبة مختفيا..حتّى ابتعد عنهم وصادف مزارعا آخر بمفرده يحصد سنابله النّاضجة فترجّاه قائلا:"خبئني أيّها الطيّب،إنّهم يريدون قتلي"

حنّ الرّجل وأشفق عليه:اختبئ هنا تحت هذه الكومة من السّنابل المحصودة

-سيجدونني ويقتلونني قال الثعبان.

-وأين أخبئك؟لا مكان آخرقال المزارع

-سألتفّ حول وسطك..هو أفضل مكان وأكون آمنا هناك قال الثّعبان بخبث دفين وبصوت متضرّع متوسّلا صاغرا.

-ولكن أخاف أن تغدرني،قال المزارع الطيّب

-لك منّي عهد يقين،قال الثّعبان ذلك وأذرف دموعا كدموع التّماسيح.

صوت جلبة تقترب شيئا فشيئا،اضطرب الثّعبان وأخذ يتوسّل للمزارع أن يسمح له بالإختباء قبل أن يصلوا.

لم يدر الرّجل كيف سمح له ورقّ لحاله،لكنّه فعل.

تكوّرت في حجرها،كنت صغيرا وقتها لم أدخل الكتّاب بعد..لازمني خوف شديد ورهاب مرعب وأنا أتابع القصّة المروّعة،كانت جدّتي في قرارة نفسها أنّني سأغوص في نومي مع هذه الحكاية لكن أظنّ العكس الّذي سيحدث لي. 

واصلت قصّتها بعد أن كثر تثاؤبها وأنا أنهرها كلّ مرّة لخلطها في الكلام..بدأت تفقد حركة رأسها كدجاجة تلتقط الحبّ.

-أرجوك ياجدّتي،ماذا حدث بعد ذلك؟هل وجدوه؟أقتلوه؟

استفاقت جدّتي من غفوتها وواصلت قائلةبصوت خفيض مع تثاؤب متواصل ودموع ملأت محاجر عينيها:"وصل المزارعون بمناجلهم وأخذوا يبحثون تحت ركام السّنابل بحثا دقيقا:ألم يمرّ ثعبان ضخم مرقّط من هنا أيّها الرجل؟سأل أحدهم بصوت جهوري مع سحنته المتجهّمة وعرقه المتدفّق من جبينه والمنجل متأهّب في يده.

-لم أره،كنت منهمكا في عملي قلت ذلك وأنا كاذب لكن لأحمي نفسي وأحمي هذا الّذي استوطن جسدي.

اعتدلت قليلا في جلستي وانا متحيّر وقلت:

-أنزل الثّعبان بعد ذلك و وفّى بوعده ياجدّتي..؟

أخرجت جدّتي زفيرا متقطّعا له أزيز

-هيهات يا ولدي..لقد غدر بالمزارع الطيّب وأراد لدغه..

-وماذا فعل الرّجل ياجدّتي..؟!

طلب منه أن يحكم بينهما شخص أو حيوان يصادفاه وهما في طريقهما إلى بيته.

اكملي،اكملي ياجدتي!

-صادفا حيوانات..طيور..كلّهم اشتكوا من ظلم الإنسان واعطوا الحقّ للثّعبان 

اغتبطت الحيّة بما سمعت: لقد خسرت أيّها الإنسان،سأقضي عليك قبل أن تطأ قدمك عتبة بيتك..!

-انتظر قليلا إنّني أسمع حركة تقترب منّا..إنّه القنفذ،هلّا حكينا له قصّتنا..؟

-سيكون آخر من نسأله ونحكي له قال الثّعبان وقد نفد صبره وقدحت عيناه شررا..!

واصلت جدّتي:"وبعد أن أمسك بالحمامة"...!؟

امتدّت يديّ إلى جفنيها الّلتين أطبق عليهما النّعاس وأخذت في فتحهما..نبّهتها كي تستفيق قليلا؛بالكاد فتحت عينيها وأخذت تنظر حواليها وكأنّها تحلم.

غلبني الضّحك ولم أعد أتحكّم في نفسي:"أيّ حمامة ياجدّتي! نحن مع المزارع والثعبان والقنفذ.

وهل تكلّمت أنا عن الحمامة..؟!

-نعم ياجدّتي،لقد غفوت قليلا.

ابتسمت وداعبت شعري بأصابعها المعظّمة ولمستهم الحنونة:حكى المزارع للقنفذ حكايته مع الثّعبان الّذي ما برح محاطا بخصر الرّجل وكلّه أسف وألم على فعل الخير والّذي انقلب شرّا له.

-أنا مستغرب جدّا من هذه القصّة،كما أنّني لا أرى إلّا شخصا واحدا أمامي أيّها المزارع،فأين المذنب الّذي تدّعي عليه؟ ربّما يكون على حقّ و هو مختف عن الأنظار إن كان موجود حقا فلينزل ويظهر نفسه وأحكم بينكما بعد أن أستمع لكليكما؛ قال القنفذ بكلّ عزم ودهاء.

-اطمأنّ الثّعبان لكلام القنفذ وظنّ أنّه على حقّ فطفق منسابا في سرعة غير معهودة دون أن يفكّر أو يشكّ في الأمر وأخذ مكانه على مسافة حدّدها القنفذ.

استدار القنفذ بسرعة إلى الرّجل وقال له دونك الثّعبان،بضربة سريعة سرعة البرق الخاطف تمكنّ المنجل من حصد رأسه.

قصّة رائعة ياجدّتي،لولا القنفذ لهلك الرّجل و هل كافأ المزارع القنفذ،أم انتهت القصّة؟

ابتسمت الجدّة مرّة أخرى وقالت بعد أن فطنت قليلا،لم تنته القصّة،لقد وضع المزارع القنفذ داخل الكيس و أخذه معه إلى بيته ليكافئه بعشاء دسم.

حكى الرّجل لزوجته حكايته العجيبة و كيف أنقذه القنفذ وأنّه أحضره معه ليكافئه على مافعله معه من خير لايُنسى.

وضعت الزّوجة كفّها على خدّها وراحت في تفكير عميق

-مابك يا امرأة،انهضي وحضّري عشاء فاخرا لضيفنا إنّه ينتظر داخل الكيس في الخارج.

-حاضر يازوجي العزيز"

أسرعت إلى المطبخ وأخذت مدقّة المهراس وأسرعت إلى الكيس وقامت بالمهمّة.

استلقى الزّوج على فراش من الحلفاء والتّعب ينهش مفاصله:هل حضّرت العشاء يا عزيزتي..؟!

ابتسمت ابتسامة مصطنعة يشوبها الشرّ و الكيد، قالت:"اصبر ياعزيزي،سيكون عشاؤنا اليوم لذيذا و دسما".

عندها سكتت جدّتي عن الكلام؛ فهي تنام.


د.الأديب عبد الستار عمورة الجزائر

11/04/2023

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيف ودرع...بقلم الشاعر أكرم كبشة

كادوا للأمة الإسلامية...بقلم الشاعرة تغريد طالب الأشبال

وداعا يا حبيبي....بقلم الشاعر محمد السيد يقطين

احيانا،ودي ما تغيب الذكريات....بقلم الشاعر رضوان منصور

حوار شعري بين حبيبين.. بقلم الشاعر/م.صبري مسعود.

في هذه الحديقة....بقلم الشاعر نورالدين جقار

نثريات.. بقلم الكاتب/محمد حسن البلخي

تحت وطأة الدجى....بقلم الشاعر توفيق عبد الله حسانين

تهمة في مسالك التحقيق...بقلم الشاعرة مريم بوجعدة

يمضي الليل...بقلم الشاعر أبو روان حبش