التوحد.. بقلم الأديب /د. حسين نصرالدين

 التوحُد : 

بقلم : حسين نصر الدين :

لن ْ أتكلم عن موضوع التوحد كمرض ٍ أو كعرض ٍ لعاملٍ وراثي ٍ أو نفسي ٍ ، ولن ْ أتناوله علميا ً لكني سوف أحكي عن هؤلاء المظلومين قسْريَّاً والمُتهمين بأنهم مُصابين بالتوحد ،أو (متوحدون) وذلك من خلال تجربة عشتها بنفسي مع هؤلاء لفترة ٍ من الفترات لبضعة شهورٍ.

هؤلاء من أروع القلوب ومن أجمل الأرواح على وجه الأرض ، ومن أروع النفوس التي خلفها الله عز وجل ، كان من حسن حظي (وللأسف لبضعة شهور فقط) العمل كمسئول مالي وإداري في دار الوفاء والأمل في الكويت ( وكانت تابعة لوزارتي الشئون الإجتماعية والعمل والأوقاف والشئون الإسلامية معا ً ، وليس وزارة التربية والتعليم ، وكان عملاً ممتعاً جداً ، إذ أنني كنت قريبا ً منهم جداً ، مع تحذيرات الإدارة العليا بالدار بألا أترك مكتبي وألا أحْتَّكَ بهؤلاء الصبية الصغار على زعم قولِهم أنهم مرضى ، لكني هيْهَات أن أنفذ َ الأوامر والتعليمات فكنت أحضر لهم الشيكولاتة وكانوا ينادونني عمو الطيب ، لأني أكاد أكون أنا الوحيد في الدار الذي يعامُلهم معاملة ً طيية ً مع العلم أن كل طاقم العمل بالدار نساء من جنسيات مختلفة كويتيات ويمنيات وسودانيات شديدات السُمرة ، وكان معظمهن مالم ْ يكن جميعهن غلاظ القلوب والملامح على حد ٍ سواء ، وكانما يأتون بمن يريدون أن يعاقبونهم بالعمل في هذه الدار ، وازدادتْ التوجيهات والتحذيرات لي من قبل الإدارة لعدم التدخل وعدم الاحتكاك بهم تماماً ، وذات مرة تغيبت إحدى المدرسات والتي تقوم بتدريس اللغة العربية فتطوعتُ ودخلتُ الفصل التعليمي وشرحتُ للأولادِ ، دون َ تكليف ٍ من أحد ٍ من الإدارة ، وتركتني حضرة الناظرة لِمَا وجدَتْه من سكوتِ الأولاد الصغار وسكونِهم وهدوئِهم وفهمِهم للدرس واستجابتهم لي وفرحتهم حتى أنهم صاحوا وحزنوا عندما ضرب الجرس بانتهاء الحصة وكلهم بلا استثناء تعلقوا بي وبثابي ألا أتركَهم ، وكأنهم وجدوا فيَّ الخلاص مما يُعانوه من صلف ِ وسوءِ معاملة ِ مُعلميهم ، طبعاً في نهاية ِ اليوم الدراسي استدعتني المديرة في اجتماع عاجل ومغلق ، وأنهت عملي بالدار ، وأنها سترسل للوزارتيْن كتاباً بهذا المعنى والأسباب هي : أنني أتدخل في الفصل التعليمي للمرضى (على حد ِ قَوْلها) وأنني قمت بالتدريس لهم حصة ً دونما أن أكون مؤهلاً علميا ً لذلك ، كما أنني أتعمد بمخالفة التعليمات التي تقضي بعدم التقرب والاقتراب منهم وأنني أجلب لهم الشيكولاتة في فترات بين الحصص وفي فسحة اليوم الدراسي ، وأنني في النهاية الرجل الوحيد في الدار وكل هيئة التدريس والإدارة نساء ، وأن هذا محالف ٌ شرعا ً.. وتم توقيع جميع نساء الإدارة الموجودات في الدار على قرار إنهاء العلاقة الوظيفية ، وحينما ذهبت ُللحصول على مستحقاتي المجتزأة وباقي راتبي عن باقي أيام عمل الشهر الأخير ذهبت لألقيَ نظرة ً على الصبية الأحباء فتعَلَّق بي معظمهم لا تتركنا يا عمو الطيب .. هكذا وبكى معظمهم وبكيْتُ .. وسط دهشة النساء البشعات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وآسف على الإطالة ولكن هؤلاء أطيب قلوب ، وعلى فكرة عقولهم ذكية ولكن حسب عمرهم العقلي المتأخر عن عمرهم السِني ، وأيضا ً يوجد منهم من يمتلك هوايات ٍ عبقرية ٍ كالتقليد والمُحاكاة والرسم والفن والتمثيل والموسيقى والعزف  ، ولكن يحتاجون قلوباً رحيمة حنونة ترعاهم وتتولى أمورهم وتُنمي مواهبَهم ..  وأعتقد أن الأمور العلمية والراعية الصحية والتعليمية تكلم عنها متخصصون غيري كُثُر ٌ ، ولكني اكتفيْت ُ برواية تجربتي الشخصية مع هؤلاء القلوب الصافية النقية الطيبة ، والتي كلما تذكرتُ هذه الواقعة أتذكرها بأسى ً وحسرةٍ ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وقعت أسير هواك...بقلم الشاعر أبو بكر المحجوب

سنين عمري ....بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

عسعسة العيش....بقلم الشاعر راتب كوبايا

قلبي ينبض بحبك...بقلم الشاعر أبوبكر المحجوب

لست وحدي ...بقلم الشاعر رضا الشايب

منها نستفيد...بقلم الشاعر علي مسلم عجمي

محبة ....بقلم الشاعر أحمد قراب

الخمار الأسود.. بقلم الشاعر/منصور عمر اللوح

اِغضب...بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

تبرية من شيم العفاف تنجلي....بقلم الشاعر معمر محمد بدوي