عمر بهاء الأميري.. من كتاب أعلام الشعر العربي في حلب للأديب والشاعر /د. عبدالحميد دبوان

 من كتابي أعلام الشعر العربي في حلب


                     عمر بهاء الأميري

       .    ....       1916- 1992

اسم حفر في ذاكرة التاريخ العربي السوري بحروف من ذهب. فقد كان هذا الرجل يتمتع بمزايا عديدة تجعله في مصاف أعلام القرن العشرين. فهو الشاعر الذي لامس بشعره أحاسيس الناس من خلال النفحات الإيمانية التي كان يرسلها عبر قصائده، وهو السياسي الذي تقلد المناصب العديدة ومثل بلده فيها خير تمثيل ، وهو الجندي الذي شارك في الدفاع عن القدس مع جيش الإنقاذ. 

وهو المحامي الذي أسهم في تأسيس حركة (سورية الحرة)، وهو  الأستاذ الذي جاب الأقطار العربية أستاذاً زائراً يلقي المحاضرات في جامعات المغرب والسعودية والإمارات وباكستان وتركيا وغيرها.

ولد الشاعر عمر بهاء الأميري في حلب سنة 1916 ونشأ في مدينته التي أحبها طيلة حياته فدرس فيها الإبتدائية والثانوية ، ثم ارتحل إلى فرنسا فدرس في جامعة السوربون في باريس الأدب وفقه اللغة .

ثم درس الحقوق في الجامعة السورية في دمشق . ثم تحول بعد ذلك إلى التدريس فدرَّس علوم الاجتماع والنفس والأخلاق والتاريخ في حلب ودمشق وتولى بعد ذلك إدارة المعهد العربي الإسلامي في دمشق.

والتفت بعد ذلك إلى المحاماة فمارسها في نقابة المحامين بحلب وشارك في بعض مؤتمرات اتحاد المحامين العرب.

وقد شارك (كما ذكرنا) في الدفاع عن (القدس) وشارك في جيش الإنقاذ خلال حرب فلسطين عام 1948.

أما في الجانب السياسي فقد مثل سوريا وزيراً ثم سفيراً في عدة دول منها باكستان والسعودية ثم سفيراً في وزارة الخارجية وكان في مهامه السياسية خير ممثل لدولته لما تمتع به من ذوق في العبارة وحسن تصرف ولباقة دبلوماسية.

دُعي إلى المغرب عام 1386هـ - 1955 م أستاذاً لكرسي الإسلام والتيارات المعاصرة في جامعة القرويين في الرباط واستمر في عمله مدة خمسة عشر عاماً وتنقل في تدريسه بين جامعات القرويين ومحمد الخامس وجامعة قطر.

عمل أستاذاً زائراً ومحاضراً في جامعات الرياض والإمام محمد بن سعود والملك فيصل والملك عبد العزيز في السعودية ، كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة الأزهر والجزائر والكويت وعديد من جامعات الأقطار العربية والإسلامية أما آثاره الأدبية فقد أصدر أكثر من ثلاثين ديواناً شعرياً وكتاباً وترجمت بعض قصائده إلى لغات عديدة.

لغة عمر بهاء الأميري الشعرية : تنوعت لغة عمر بهاء الأميري الشعرية فقد خاض في عدة اتجاهات شعرية كان أهمها الاتجاه الديني الذي تميز فيه بل إنه وجه الشعر الديني اتجاهاً تأملياً ذاتياً لم يُعرف قبل ذلك فهو يسبح مع الله في فكره وفي مشاعره ومع نبض قلبه وحبه بل مع حياته كلها: ( )

مع الله في سبحات الفكر

مع الله في رعشات الهوى

مع الله والقلب في نشوة

مع الله في سير كنه الوجود

مع الله في وحي قرآنه

مع الله في الفيض من قدسه

فنبصره جل من خالق

ونحيا به ثم نفنى به

 مع الله في الخلجات الأُخر

مع الله في لمحات البصر

مع الله والنفس تشكو الضجر

وروح الحياة وسر القدر

مع الله في آيهِ والسور

ينير بصيرتنا والبصر

بآلائه البارعات الغرر

فنحيا ونحيا ونحيا الدهر


وتمضي القصيدة على هذه الوتيرة بقية أبياتها التي تصل إلى خمسة وخمسين بيتاً فتتكرر اللازمة (مع الله) ويمضي في سرد تأملاته وخواطره فيها بكل بساطة ولكنه يطرح في مفرداتها تأملاته في الوجود التي تجعل المفكر في معانيها يستغرق في عالم من الوجد والتسامي في ملكوت الله عزوجل.

وفي قصيدة ثانية نراه يكرر تأملاته في الوجود ويرى من خفايا الخلود ما يجعله ينتشي ويكبر هذا الوجود الرائع للخالق العظيم :

تأملت في كنه هذا الوجود

نجبت الوهاد وطفت النجود

وفكرت في نحسه والسعود

وإذ كاد يعرو شعوري الجمود

تلألألي من خفايا الخلود

 وغصت على كشف أسراره

وجلت بأجواء أنواره 

وفي خيِّريه وأشراره

ويثنيه عن سبر أغواره

شعاع فصحت بإكباره 


أما في قصيدة »أسر الحياة« فإننا نرى فيها تساؤل لم نجده في قصائده الأخرى فهو هنا بدأ يتساءل عن الغيب ماذا وراءه ويحار في رؤاه ولا يدري ماذا يفعل فيقول:

رباه قد ضج الألم

الواقع المضني الممض

ومناي ترقى في السماء 

وعوالم الغيب البعيد

أنا لست أدري خلف هذا

ووراء آكام الغد المجهو

وأنا رهين توحدي

والله لولا الله

للزمت دار توحدي

 والكون نام ولم أنم

يجرني نحو الظلم

وتمتطي النجم الأشم

تلوح كالحلم الأصم

الدرب ماذا قد جئم 

ل أي أسى ألّم

أحيا على هم وغم

والطبع العيوف لما يذمّ

حتى أسربل على العدم


ولكنه في النهاية يستسلم للقضاء والقدر بعد أن يكون قد عجز عن محاولات التطلع إلى عالم الغيب وأسرار الوجود يقول في قصيدة »غَلَق«.

يا ربي أنت الذي أوجدت من عدم

ذاتي وألقيتني في عالم البشر

فلست أعلم من سري ومن قدري

إلا بمقدار ما أعطيت من قدر

وكيف يعبر خلف الأفق بي بصري

حتى أراك ، وقد ألجمت من بصري

ودون رؤياك أحيا العمر في غلق

من التظني ، وقد أنساق في وطري


ولكن شاعرنا لم يغلق نفسه وشعره على الجانب الديني في تفكيره وشعره بل أعطى ذاته ووجدانه حيزاً من شعره لا بأس به.

ففي قصيدة (عزلة الأحرار) يطلق ذاته من عقالها ليعبر عن تمرده على الواقع الذي يعيش فيه وأنه يأنف من الغوص في توافه الأمور ويدخر نفسه لعظائها.

قالوا اعتزلت فقلت : صنت كرامتي

ولزمت في رهج الزحام إبائي

لاءمت بين تصرفي وسجيتي

وحفظت حق الله والعلياء

وذخرت نفسي للعظائم صابراً

وطويت عن ذل الصغار ردائي

قالوا : ومعترك الجهاد فقلت : هل

أضحى الجهاد تهاتف الغوغاء

قالوا : اعتزلت ؟ فقلت عزلة رابض

متحفز للوثبة الشمَّاء

إني لأرجو أن أحاول صادقاً

في صوغ ذاتي من تقى ومضاء 

لأكون في الجلى إذا الداعي دعا

سهماً يصيب مقاتل الأعداء

وما عزلة الأحرار إلا عزّة 

والصبر كل الصبر في اللأواء 


وكذلك كان الاتجاه الجمالي في شعره يظهر واضحاً من خلال تصوير الطبيعة بطريقة جمالية غير تقليدية :

لَحُسْنٌ وروعةٌ في دبيب العزم

لم يبق ذا حياة بداره

ماج منه الوادي بروح مُطل

من كوى الفجر خافق في إطاره

لا بس بهجة الصباح ووهج الماس

والدّر في اتضاح نهاره

فاتقاد النشاط في ساكنيه

كاتّقاد الحياة في أطياره

ورفيف الفراش والنحل يحكي 

دأب النمل جدَّ في تسياره

ويمر النهار في نصب السعي

ويبدو المساء خلف أستاره

في احمرار كخد بيضاء رود

حجبت بالشفوف من جلناره

وكأني بالشمس غارت من الوادي 

وقد لاح زاهياً في خماره

ثم ألقى عباءة الليل عنه 

منتدى الجمال بعد استتاره

ثم أضحى تهتزّ في جانبيه

خطرات الحيارة رغم وقاره


هذه القصيدة التي تصور إطلالة الفجر وإشراقة النهار وتصور صراعاً يقوم بين الشمس والوادي يضفي على الوادي الروعة والجمال ساعة الغروب تعطينا صورة واضحة عن طبيعة هذا الشاعر الصافية المتعطشة للجمال والحب الإنساني والوجد الإلهي.

توفي الشاعر عام 1992 م


د عبد الحميد ديوان .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وقعت أسير هواك...بقلم الشاعر أبو بكر المحجوب

سنين عمري ....بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

عسعسة العيش....بقلم الشاعر راتب كوبايا

قلبي ينبض بحبك...بقلم الشاعر أبوبكر المحجوب

منها نستفيد...بقلم الشاعر علي مسلم عجمي

الخمار الأسود.. بقلم الشاعر/منصور عمر اللوح

اِغضب...بقلم الشاعر عبد المنعم مرعي

لست وحدي ...بقلم الشاعر رضا الشايب

تبرية من شيم العفاف تنجلي....بقلم الشاعر معمر محمد بدوي

مهرك غني....بقلم الشاعر بدر الدين ود الفاشر