الحلقة 18 مرافئ الأيام.. النور.. بقم ربيع دهام
(الحلقة 18 من مرافىء الأيام / النور / ربيع دهام)
وضعتْ الكتاب على المنضدة أمامها. جاءها النادل بلائحة
الطعام.
ابتسمت. تحفظها عن ظهرِ تكرار.
"شاي"، قالت للنادل.
ابتسم بدوره كونه يعرف ماذا ستطلب.
جالت بناظريها أرجاء المكان. اشتاقت لشارع الحمرا.
ولهذا المقهى بالتحديد، حيث عبر الباب الأمامي، كان قد دخل
يوماً رجلٌ اسمه فريد. رجلٌ سيصبح شاغل عقلها وقلبها وأيّامها.
رجلٌ سيمسي حبيبها في المشاعر، وخصمها في السياسة.
وهي ذي الطاولة التي "أخذها بطريقه"، تشهد على حبَّهما
الوحشي العنيف.
ضحكت لمّا رأت الطاولة متعافية.
ثم سرحت بأفكارها وطارت. أعادها إلى الأرض صوت النادل:
"تفضّلي".
بسرعةِ الوهلة استدارت، حتى كادت أن يصطدم كأس الشاي بجبينها.
"عفواً"، ابتسمت وشكرته.
أعادت ناظريها إلى المنضدة أمامها. وإلى جانب كأس الشاي، رأت
الكتاب الصغير يفترش المسطَّح الخشبي مللاً.
مدّت يدها اليمنى وبتردُّدٍ التقطته.
تفحَّصته كطبيبٍ يشدُّ على بطنِ مريضه. أو كحلاقٍ يتفرّس شعرَ
المارّة. أو كمحلّل استراتيجي "كزَّ" التحليل عن محلل استراتيجيٍّ آخر، وادّعى أنَّه من بنات أفكاره.
قرَّبت الكتاب من ناظريها. حاولت فتح الكتاب لكنها لم تقدر.
شدَّت وعادت واستسلمت.
ما هذا؟ كأنَّ بها تحاول فتح الباب العالي. أو تشرع باقتحام فاشلة
لقلعة ألموت.
أحسَّت أن شيئاً ما يمنعها من فتحِه. مِن سبر غوره. من قراءته.
كأنَّها بقراءة الكتاب، أو مجرّد التفكير بقراءته، إنّما ترتكب جنحة
ما بحقِّ تاريخها، وتاريخ أبويها، وتاريخ شجرة عائلتها.
بل وتاريخ طائفتها ودينها ووطنها.
كأنَّها ضُبِطت متلبِّسة بجريمة كُبرى اسمها "عدم انصياع".
"مذنبة أنتِ ومدانة!"، تسمعُ فجأة مطرقة العدالة تصيح.
وبعد صوت المطرقة، ها هو صوتها يصرخ:
" بريئة يا سيِّدي. واللهِ أنا بريئة".
وتُسكتها المطرقة وتخرِسها:
"هششش. فلتخرسي أيتها النمِرةْ الوحشيِّة.
ما كان عليك إلّا أن تبقي قطَّة مدجَّنة كما أردتكِ.
كان عليك البقاء في زريبة الطّاعة والولاء".
واقتربت منها المطرقة، ثم توقّفت وحول نفسها استدارت.
تنفّست هي الصعداء ظنَّاً أن المطرقة ستشرع بالرحيل.
لكن المطرقة العنيدة إنمّا استدارت وطوت قامتها، لتلتقط
بمخلبها المنحني رأس عفيفة، مهدِّدةً:
" سأخلع رأسك عن جسدكِ أيّتها المتمرّدة!".
ثم غرزت مخالبها في دماغ المرأة المسكينة وأكملت قنابل الوعيد:
" مدانةٌ أنتِ بالانعتاق من القوقعة. بالخروج من القمقم.
بالنظر إلى ما فوق الجدار، إلى حيث النور".
وتعود عفيفة وتكرِّر: "لا. لا. لا. بل أنا باقية حيث أمرني أسلافي.
أنا بريئة بريئة بريئة".
ويصيح الكتابُ ما بين يديها: "بل تمرّدي يا عفيفة. تمرَّدي".
وترمي عفيفة الكتاب، وتذوي مثل وردةٍ مُنَعِت عنها الشمس،
وتتراجع إلى الخلفِ وتتكوَّر. تهمس في نفسها:
" أنطون سعادة؟! كيف لي أن أقرأ كتاباً لرجلٍ أكرهه وأنبذ
فكره؟"، يصيح الصوت في داخلها.
ويذرع السؤالُ دماغَها جيئة ذهاباً باحثاً له عن جواب.
لكن صوتٌ آخر من داخلها يهمس:
"كيف لي أن أكره مبادئه إذا كنت لم أقرأه ولا أعرف فكره؟".
ويصرخ الصوت الأول بالثاني: "اسكتْ يا ولد. وطِع ونفِّذ".
ويصيح الثاني بالأول: " بل اخرس أنتَ أيها الكهل المُحنّط.
وفكِّر وجابِه وتمرّد".
ويتقاتل الصوتان فيما بينهما كذئبين يتصارعان على القيادة.
وبعد الالتحام والعواء وغرز المخالب، ينفش ذئب التمرُّد فروَه
وينصب أذنيه، ويرفع ذيله في الهواء.
ويسطّح ذئبُ "الطاعةِ العمياء" أذنيه وينحني، ويضع ذيله بين ساقيه.
أي بما معناه: قد انتصر ذئب التمرُّد على ذئبِ الاستكانة فيها.
وعلى أبواق طعم النصرِ المبين، ونكهة الشَّاي المنعش الفاخر،
ألقى ذئبُ الخوفِ سلاح مخالبه، وفتحت عفيفة كتاب أنطون سعادة، وقرأت ...
تعليقات
إرسال تعليق