صو في ذاكرة متعبة ص 165..بقلم الأديب المبدع/سالم عكروتي أبو عيسى

 


صو في ذاكرة متعبة

ص 165


 الشتاء ببرده وزمهريره وأيامه المطيرة القارسة ،في كوخنا العتيق وسوره من أشجار السدر، كان المطر رذاذا ،الجو غائم مكفهر، نقرات حبات المطر على صحن حديدي مقلوب على أطراف سورنا تحدث نغمات رتيبة جميلة ، المساء يقترب بظلمته المهيبة، أبي يقود شويهاتنا إلى الزريبة المحاذية ومعطفه الوحيد علي رأسه إتقاءا للسعات البرد والمطر ، أمي توقد نارا في كوخنا الصغير المحاذي لكوخنا الكبير ،كوخنا الصغير هو مطبخنا وأين تطهو أمي الكسرة تحت نار تذكيها بحطب الأشجار اليابسة وروث البهيمة ، ضوء القازة الخافت هو الوحيد النور الذي نستدل به وسط عتمة الظلمة المطبقة نروح بها ونجيئ كلما إستدعت الحاجة وسط باحة الكوخين، هذا مستقرنا وعالمنا البائس الجميل ،هذا إمتدادنا الرائع بساطة وجوع وحوج حد الكفر نلكوها بإيمان جبار وقناعة مرغمة، المطر يزداد هطولا ودمدمة الرعد ووميض البرق ترجف قلب أمي فتنساب سيلا من الرجاء والدعاء بقلب يوجف خيفة ودعاء أن الله يتلقفنا برحمته وعونه ، كنت أنا وأخي الأكبر مني ونحن الأصغر ترتيبا في سلم العائلة في مرح وظحك هستيري وأطراف ملابسنا مبللة من قطرات المطر الساقطة من سقف كوخنا المتهالك ، أمي تحتوينا بعطفها وحنانها ودمعة تخفيها وبكاء صامت أزلي يدك كل المدائن وطوفان من القهر يسع كل الكون، إرتج الكوخ وتصدعت جوانبه و صار المطر عاصفة تشبه الإعصار ، البرد شديد ، البرق يومض بشراسة تتبعها ردفات ودمدمات لصاعقة حلت هنا وهناك ، قلوب ترتجف وهلع مستمر ودعوات خفية تترجمها تمتمات أمي الباكية وصبر أبي المتماسك وهو يوقد نارا رغم السيول ،يقارعها كلما أتت على النار لتطفأها إلا وأشعلها أبي ،أحيانا تتطاول ألسنة اللهب لتصل إلى سقف الكوخ لتشعله فيتادركها أبي بالصحن الكبيرالوحيد الذي نملك ليغترفه من الساقية التي أحدثتها سيول ألمطر بجانب الكوخ، فيطفئ بها حريقا وشيكا في سقف كوخنا الصامد ،هكذا تمر ليالينا ونحن نصارع الطبيعة وليالي الشتاء القارسة المطيرة ببراءة الأطفال وبصبر الأب ودعوات أمي المسكينة المتعبة، هذا كان في شتاء 1977 كنت أدرس في السنة الثانية إبتدائي ، كانت كل المشاهد تمر أمامي وأنا الطفل الصغير أقحمتني الحياة في عراك ازلي لا أفقهه بقلبي الصغير أشارك أمي وأبي صراعا وحربا وجودية في حق البقاء، كانت الحيرة وألف سؤال يراودون تفكيري البسيط الكبير ، لماذا نحن هكذا ،محفظتي وكتاب إقرأ ولوحتي وكراسي وقلمي تبللوا وتضمخوا بقطرات المطر العنيفة ،حاولت مرارا إسعافهم من التلف ، بكيتهم بصمت ونعيتهم بخوف ووجل ، زخات المطر غزيرة ورهيبة، إنطأ ضوء القازة وساد الصمت وأطبقت الظلمة وكلنا نترقب النهاية أن يخر علينا سقف الكوخ أو أن تذهب جوانبه مع السيل المنهمر، أتذكر أن أمي الأيقونة الصامدة حضنتني ولحفتني بطرف ردائها المبلل ،أحسست بدفء آت من عمق الأمومة والعطف والحنان، حملتني إغفاءة ورحلت مع نوم جميل ورائع.........يتبع

سالم عكروتي (ابو عيسى)

تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيف ودرع...بقلم الشاعر أكرم كبشة

كادوا للأمة الإسلامية...بقلم الشاعرة تغريد طالب الأشبال

وداعا يا حبيبي....بقلم الشاعر محمد السيد يقطين

احيانا،ودي ما تغيب الذكريات....بقلم الشاعر رضوان منصور

حوار شعري بين حبيبين.. بقلم الشاعر/م.صبري مسعود.

في هذه الحديقة....بقلم الشاعر نورالدين جقار

نثريات.. بقلم الكاتب/محمد حسن البلخي

تحت وطأة الدجى....بقلم الشاعر توفيق عبد الله حسانين

تهمة في مسالك التحقيق...بقلم الشاعرة مريم بوجعدة

يمضي الليل...بقلم الشاعر أبو روان حبش